الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
التقدير: على مخافة وعل.والمقصود: إن الخلق الثاني كالخلق الأول في جانب القدرة.وجملة {إن الله سميع بصير} إما واقعة موقع التعليل لكمال القدرة على ذلك الخلق العجيب استدلالًا بإحاطة علمه تعالى بالأشياء والأسباب وتفاصيلها وجزئياتها ومن شأن العالم أن يتصرف في المعلومات كما يشاء لأن العجز عن إيجاد بعض ما تتوجه إليه الإرادة إنما يتأتى من خفاء السبب الموصل إلى إيجاده، وإذ قد كان المشركون أو عقلاؤهم يسلمون أن الله يعلم كل شيء جعل تسليمهم ذلك وسيلة إلى إقناعهم بقدرته تعالى على كل شيء، وإما واقعة موقع الاستئناف البياني لما ينشأ عن الإخبار بأن بعثهم كنفس من تعجب فريق ممن أسروا إنكار البعث في نفوسهم الذين أومأ إليهم قوله آنفًا: {إن الله عليم بذات الصدور} [لقمان: 23]، ولأجل هذا لم يقل: إن الله عليم قدير.{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولجُ اللَّيْلَ في النَّهَار وَيُولجُ النَّهَارَ في اللَّيْل}.استدلال على ما تضمنته الآية قبلَها من كون الخلق الثاني وهو البعث في متناول قدرة الله تعالى بأنه قادر على تغيير أحوال ما هو أعظم حالًا من الإنسان، وذلك بتغيير أحوال الأرض وأُفقها بين ليل ونهار في كل يوم وليلة تغييرًا يشبه طُروّ الموت على الحياة في دخول الليل في النهار، وطروّ الحياة على الموت في دخول النهار على الليل، وبأنه قادر على أعظم من ذلك بما سخره من سير الشمس والقمر.فهذا الاستدلال على إمكان البعث بقياس التمثيل بإمكان ما هو أعظم منه من شؤون المخلوقات بعد أن استدل عليه بالقياس الكلي الذي اقتضاه قوله: {إن الله سميع بصير} [لقمان: 28] من إحاطة العلم الإلهي بالمعلومات المقتضي إحاطة قدرته بالممكنات لأنها جزئيات المعلومات وفرعٌ عنها.والخطاب لغير معين، والمقصود به المشركون بقرينة {وأن الله بما تعملون خبير}.والرؤية علْمية، والاستفهام لإنكار عدم الرؤية بتنزيل العالمين منزلة غير عالمين لعدم انتفاعهم بعلمهم.والإيلاج: الإدخال.وهو هنا تمثيل لتعاقب الظلمة والضياء بولوج أحدهما في الآخر كقوله: {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار} [يس: 37].وتقدم الكلام على نظيره في قوله: {تُولج الليل في النهار} أول سورة آل عمران (27)، وقوله: {ذلك بأن الله يولج الليل في النهار} الآية في سورة الحج (61) مع اختلاف الغرضين.والابتداء بالليل لأن أمره أعجب كيف تغشَى ظُلمته تلك الأنوار النهارية، والجمع بين إيلاج الليل وإيلاج النهار لتشخيص تمام القدرة بحيث لا تُلازم عملًا متماثلًا.والكلام على تسخير الشمس والقمر مضى في سورة الأعراف.وتنوين {كلٌّ} هو المسمى تنوين العوض عن المضاف إليه، والتقدير: كلٌّ من الشمس والقمر يجري إلى أجل.والجري: المشي السريع؛ استعير لانتقال الشمس في فلكها وانتقال الأرض حول الشمس وانتقال القمر حول الأرض، تشبيهًا بالمشي السريع لأجل شسوع المسافات التي تقطع في خلال ذلك.وزيادة قوله: {إلى أجل مسمى} للإشارة إلى أن لهذا النظام الشمسي أمدًا يعلمه الله فإذا انتهى ذلك الأمد بطل ذلك التحرك والتنقل، وهو الوقت الذي يؤذن بانقراض العالم؛ فهذا تذكير بوقت البعث.فيجوز أن يكون {إلى أجل} ظرفًا لغوًا متعلقًا بفعل {يجري} أي: ينتهي جريه، أي سيره عند أجل معيَّن عند الله لانتهاء سيرهما.ويجوز أن يكون {إلى أجل} متعلقًا بفعل {سَخَّر} أي: جعل نظام تسخير الشمس والقمر منتهيًا عند أجل مقدّر.وحرف {إلى} على التقديرين للانتهاء.وليست {إلى} بمعنى اللام عند صاحب الكشاف هنا خلافًا لابن مالك وابن هشام، وسيأتي بيان ذلك عند قوله تعالى: {وسخّر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى} في سورة فاطر (13).{وأن الله بما تعملون خبير} عطف على {أن الله يولج الليل في النهار} فهو داخل في الاستفهام الإنكاري بتنزيل العالم منزلة غيره لعدم جريه على موجَب العلم، فهم يعلمون أن الله خبير بما يعملون ولا يَجرون على ما يقتضيه هذا العلم في شيء من أحوالهم.{ذَلكَ بأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ منْ دُونه الْبَاطلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَليُّ الْكَبيرُ (30)}.كاف الخطاب المتصلُ باسم الإشارة موجه إلى غير معين، والمقصود به المشركون بقرينة قوله: {وأن ما تدعون من دونه الباطل} بتاء الخطاب في قراءة نافع وابن كثير وابن عامر وأبي بكر عن عاصم.والمشار إليه هو المذكور آنفًا وهو الإيلاج والتسخير.وموقع هذه الجملة موقع النتيجة من الدليل فلها حكم بدل الاشتمال ولذلك فصلت ولم تعطف فإنهم معترفون بأن الله هو فاعل ذلك فلزمهم الدليل ونتيجته.والمعنى: أن إيلاج الليل في النهار وعكسه وتسخير الشمس والقمر مُسبب عن انفراد الله تعالى بالإلهية، فالباء للسببية، وهو ظرف مستقر خبر عن اسم الإشارة.وضمير الفصل مفيد للاختصاص، أي: هو الحق لا أصنامكم ولا غيرها مما يُدّعى إلهية غيره تعالى.و{الحق هنا بمعنى الثابت ويفهم أن المراد حقية ثبوت إلهيته بقرينة السياق ولمقابلته بقوله وأن ما تدعون من دونه الباطل} والمعنى: لما كان ذلك الصنع البديع مسببًا عن انفراد الله بالإلهية كان ذلك أيضًا دليلًا على انفراد الله بالإلهية للتلازم بين السبب والمسبب.والتعريف في {الحق} و{الباطل} تعريف الجنس.وإنما لم يؤت بضمير الفصل في الشق الثاني لأن ما يدعونه من دون الله من أصنامهم يشترك معها في أنه باطل.وذكر ضمير الفصل في نظيره من سورة الحج (73) لاقتضاء المقام ذلك كما تقدم.والظاهر أنا إذا جعلنا الباء في {بأن الله هو الحق} باء السببية أن يكون قوله: {وأن ما تدعون من دونه الباطل} عطفًا على الخبر وهو مجموع {بأن الله} فالتقدير: ذلك أن ما تدعون من دونه الباطل.ويقدر حرف جر مناسب للمعنى حُذف قبل {أنّ} وهو حرف على أي: ذلك دال.وهذا كما قدر حرف عن في قوله تعالى: {وترغبون أن تنكحوهن} [النساء: 127] ولا يكون عطفًا على مدخول باء السببية إذ ليس لبطلان آلهتهم أثر في إيلاج الليل في النهار وتسخير الشمس والقمر، أو تقدر لام العلة، أي ذلك، لأن ما تدعونه باطل؛ فلذلك لم يكن لها حظ في إيلاج الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر باعتراف المشركين.وقوله: {وأن الله هو العلي الكبير} واقع موقع الفذلكة لما تقدم من دلالة إيلاج الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر لأنه إذا استقر أنَّ ما ذُكر دال على أن الله هو الحق بالإلهية، ودال على أن ما يدعونه باطل، ثبت أنه العلي الكبير دون أصنامهم.وقد اجتلب ضمير الفصل هنا للدلالة على الاختصاص وسلب العلو والعظمة عن أصنامهم.والأحسن أن نجعل الباء للملابسة أو المصاحبة وهي ظرف مستقر خبر عن اسم الإشارة، فإن شأن الباء التي للملابسة أن تكون ظرفًا مستقرًا بل قال الرضيُّ: إنها لا تكون إلاّ كذلك، أي أنها لا تتعلق إلا بنحو الخبر أو الحال كما قال:وما لي بحمد الله لحم ولا دم.أي: حالة كوني ملابسًا حمد الله، أي: غير ساخط من قضائه، ويقال: أنت بخير النظرين، أي: مستقر.فالتقدير: ذلك المذكور من الإيلاج والتسخير ملابس لحقيَّة إلهية الله تعالى، ويكون المعطوفان معطوفين على المجرور بالباء، أي ملابس لكون الله إلهًا حقًا، ولكون ما تدعون من دونه باطل الإلهية ولكون الله هو العلي الكبير.والملابسة المفادة بالباء هي ملابسة الدليل للمدلول وبذلك يستقيم النظم بدون تكلف، ويزداد وقوع جملة {ذلك بأن الله هو الحق} إلى آخرها في موقع النتيجة وضوحًا.وضمير الفصل في قوله: {وأن الله هو العلي الكبير} للاختصاص كما تقدم في قوله: {إن الله هو الغني الحميد} [لقمان: 26].و{العلي} صفة مشتقة من العلوّ المعنويّ المجازي وهو القدسية والشرف.والكبير: وصف مشتق من الكبَر المجازي وهو عظمة الشأن.وتقدم نظير هذه الآية في سورة الحج (63) مع زيادة ضمير الفصل في قوله: {وأن ما تدعون من دونه هو الباطل}. اهـ.
|